فصل: تفسير الآيات رقم (16- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 26‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ‏}‏ هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب‏:‏ هذه السورة، أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب‏:‏ جنس القرآن وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم ‏{‏إِذِ انتبذت‏}‏ العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدّر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم‏:‏ خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ‏:‏ الطرح والرمي‏.‏ قال الله سبحانه ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تنحت وتباعدت‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ اعتزلت‏.‏ وقيل‏:‏ انفردت، والمعاني متقاربة‏.‏ واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل‏:‏ لأجل أن تعبد الله سبحانه وقيل لتطهر من حيضها، و‏{‏مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ متعلق ب ‏{‏انتبذت‏}‏، وانتصاب ‏{‏مَكَاناً شَرْقِياً‏}‏ على المفعولية للفعل المذكور، أي مكاناً من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء‏:‏ المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير‏.‏

وقد اختلف الناس في نبوّة مريم، فقيل‏:‏ إنها نبية بمجرّد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك وقيل‏:‏ لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدّم الكلام في هذا في آل عمران‏.‏

‏{‏فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً‏}‏ أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض، والحجاب الستر والحاجز ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ هو جبريل عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً‏.‏ قيل‏:‏ ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه و‏{‏قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ أي ممن يتقي الله ويخافه‏.‏ وقيل‏:‏ إن تقياً اسم رجل صالح، فتعوّذت منه تعجباً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأوّل أولى‏.‏ وجواب الشرط محذوف، أي فلا تتعرض لي‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ‏}‏ أي قال لها جبريل‏:‏ إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء ‏{‏لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر‏.‏

وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع «ليهب» على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز‏.‏ والزكيّ‏:‏ الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالزكيّ النبيّ ‏{‏قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ‏}‏ أي لم يقربني زوج ولا غيره ‏{‏وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏ البغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال‏.‏ قال المبرد‏:‏ أصله بغوى على فعول، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة‏.‏ وقال ابن جني‏:‏ إنه فعيل‏.‏ وزيادة ذكر كونها لم تك بغياً مع كون قولها‏:‏ لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء وقيل‏:‏ ما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوّجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء‏؟‏ وقيل‏:‏ إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها‏:‏ ‏{‏ولم أك بغياً‏}‏ وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اه‏.‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ‏}‏ أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ علي هَيّنٌ‏}‏ وجملة ‏{‏قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ‏}‏ مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من قول زكريا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةً مّنَّا‏}‏ معطوف على آية أي‏:‏ ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبيّ رحمة لأمته ‏{‏وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً‏}‏ أي وكان ذلك المذكور أمراً مقدّراً قد قدّره الله سبحانه وجف به القلم‏.‏ ‏{‏فَحَمَلَتْهُ‏}‏ ها هنا كلام مطويّ، والتقدير‏:‏ فاطمأنت إلى قوله، فدنا منها، فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته‏.‏ وقيل‏:‏ كانت النفخة في ذيلها، وقيل‏:‏ في فمها‏.‏ قيل‏:‏ إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضيّ مدة الحمل، ويدلّ على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً‏}‏ أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصيّ هو البعيد‏.‏ قيل‏:‏ كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل‏:‏ أبعد مكان في تلك الدار‏.‏ وقيل‏:‏ أقصى الوادي‏.‏ وقيل‏:‏ إنها حملت به ستة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانية أشهر، وقيل‏:‏ سبعة ‏{‏فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة‏}‏ أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير‏:‏

أجاءته المخافة والرجاء *** وقرأ شبل‏:‏ «فاجأها» من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبيّ‏:‏ «فلما أجاءها» قال في الكشاف‏:‏ إن «أجاءها» منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقلّ، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها‏.‏

وقرأ الجمهور بفتح الميم‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسرها، والجذع‏:‏ ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد ‏{‏قَالَتْ يا مِتُّ قَبْلَ هذا‏}‏ أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان ‏{‏وَكُنتُ نَسْياً‏}‏ النسي في كلاب العرب‏:‏ الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت‏:‏

أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة *** ولسنا بنسي في معدّ ولا دخل

وقال الفراء‏:‏ النسي‏:‏ ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم‏:‏ ‏{‏نَسْياً مَّنسِيّاً‏}‏ أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر‏.‏ وقرأ محمد بن كعب القرظي‏:‏ «نساء» بالهمز مع كسر النون‏.‏ وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون‏.‏ وقرأ بكر بن حبيب ‏{‏نسياً‏}‏ بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس ‏{‏فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا‏}‏ أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة‏.‏ وقيل‏:‏ تحت النخلة، وقيل المنادي هو عيسى، وقد قرئ بفتح الميم من ‏{‏من‏}‏ وكسرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَحْزَنِي‏}‏ تفسير للنداء، أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً‏}‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ السريّ‏:‏ النهر الصغير، والمعنى‏:‏ قد جعل ربك تحت قدمك نهراً‏.‏ قيل‏:‏ كان نهراً قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالسريّ هنا‏:‏ عيسى، والسريّ‏:‏ العظيم من الرجال؛ ومنه قولهم فلان سريّ، أي عظيم، ومن قوم سراة أي عظام‏.‏

‏{‏وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة‏}‏ الهزّ‏:‏ التحريك، يقال‏:‏ هزه فاهتزّ، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ العرب تقول هزّه وهزّ به، والجذع‏:‏ هو أسفل الشجرة‏.‏ قال قطرب‏:‏ كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك‏:‏ إلى جهتك، وأصل تساقط‏:‏ تتساقط، فأدغم التاء في السين‏.‏ وقرأ حمزة والأعمش ‏{‏تساقط‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف‏.‏ وقرئ‏:‏ «تتساقط» بإظهار التاءين‏.‏ وقرئ بالتحتية مع تشديد السين‏.‏ وقرئ «تسقط، ويسقط»‏.‏

وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع؛ وانتصاب ‏{‏رُطَباً‏}‏ على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط‏.‏ قال المبرد والأخفش‏:‏ يجوز انتصاب رطباً بهزّي أي‏:‏ هزّي إليك رطباً ‏{‏جَنِيّاً‏}‏ بجذع النخلة، أي على جذعها وضعفه الزمخشري، والجنيّ‏:‏ المأخوذ طرياً‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول‏.‏ قال الفراء‏:‏ الجنيّ والمجني واحد‏.‏ وقيل‏:‏ هو فعيل بمعنى فاعل، أي رطباً طرياً طيباً‏.‏

‏{‏فَكُلِي واشربي‏}‏ أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من الرطب وعصيره، وقدّم الأكل مع أن ذكر النهر مقدّم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَرّي عَيْناً‏}‏ قرأ الجمهور بفتح القاف‏.‏ وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها، قال‏:‏ وهي لغة نجد‏.‏ والمعنى‏:‏ طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القرّ والقرّة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وقرّي عيناً برؤية الولد الموهوب لك‏.‏ وقال الشيباني‏:‏ معناه‏:‏ نامي‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ أقرّ الله عينه، أي‏:‏ أنام عينه وأذهب سهره ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً‏}‏ أصله‏:‏ ترأيين‏:‏ مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد‏:‏

أما ترى رأسي حاكى لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجى

وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ‏"‏ ترين ‏"‏ بسكون الياء وفتح النون مخففة‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ وهي شاذة، وجواب الشرط ‏{‏فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأوّل أولى‏.‏ وفي قراءة أبيّ‏:‏ ‏"‏ إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً ‏"‏ بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس‏.‏ وروي عنه أنه قرأ‏:‏ «صوماً وصمتاً» بالواو، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا‏:‏ الصمت، ويدل عليه ‏{‏فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً‏}‏ ومعنى الصوم في اللغة‏:‏ أوسع من المعنيين‏.‏ قال أبوعبيدة‏:‏ كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم‏.‏ وقراءة أبيّ تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم‏.‏ وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو‏.‏ ومعنى ‏{‏فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً‏}‏ أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها وقيل‏:‏ إنها لم تخبرهم هنا باللفظ، بل بالإشارة المفيدة للنذر‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً‏}‏ قال‏:‏ مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم‏.‏

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه، يتخوّفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس‏.‏ وعن مرّة عن ابن مسعود قالا‏:‏ خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب لحيض أصابها، فلما طهرت إذا هي برجل معها ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً‏}‏ ففزعت و‏{‏قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها، وكان مشقوقاً من قدّامها، فدخلت النفخة صدرها فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا‏:‏ يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم‏:‏ أشعرت أني حبلى، فقالت امرأة زكرياء‏:‏ فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب ‏{‏فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا‏}‏ الآية ‏{‏فَنَادَاهَا‏}‏ جبريل ‏{‏مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي‏}‏ فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت، فلما أرادوها على الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم فقَال ‏{‏إِنّي عَبْدُ الله ءَاتَانِىَ الكتاب‏}‏ الآيات، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خرّ لوجهه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال‏:‏ حين حملت وضعت‏.‏ وأخرج ابن عساكر عنه قال‏:‏ وضعت لثمانية أشهر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ قال‏:‏ جبريل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر عن أبيّ بن كعب في الآية قال‏:‏ تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال‏:‏ حملت الذي خاطبها‏.‏ دخل في فيها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَكَاناً قَصِيّاً‏}‏ قال‏:‏ نائياً‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إلى جِذْعِ النخلة‏}‏ قال‏:‏ كان جذعاً يابساً‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً‏}‏ قال‏:‏ لم أخلق ولم أك شيئاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة ‏{‏وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً‏}‏ قال‏:‏ حيضة ملقاة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله‏.‏

وأخرج عبد ابن حميد عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا‏}‏ قال‏:‏ الذي ناداها جبريل‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ الذي ناداها من تحتها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها‏.‏ وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادي هو جبريل أو عيسى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن أبي بكر بن عياش قال‏:‏ قرأ عاصم بن أبي النجود ‏{‏فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا‏}‏ بالنصب، قال‏:‏ وقال عاصم‏:‏ من قرأ بالنصب فهو عيسى، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل‏.‏ وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن ابن عمر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن السريّ الذي قال الله لمريم ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً‏}‏ نهر أخرجه الله لها لتشرب منه» وفي إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي‏:‏ ضعيف، وقال أبو زرعة‏:‏ منكر الحديث، وقال أبو فتح الأزدي‏:‏ متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراج هذا الحديث‏:‏ إنه غريب جدّاً‏.‏ وأخرج الطبراني في الصغير، وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً‏}‏ قال‏:‏ «النهر» وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وصححه والحاكم، وابن مردويه عن البراء قال في الآية‏:‏ هو الجدول، وهو النهر الصغير، فظهر بهذا أن الموقوف أصح‏.‏ وقد روي عن جماعة من التابعين أن السريّ هو عيسى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏رُطَباً جَنِيّاً‏}‏ قال‏:‏ طرياً‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن مردويه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ قال‏:‏ صمتاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ‏:‏ «صوماً صمتاً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها ‏{‏أَتَتْ بِهِ‏}‏ أي بعيسى، وجملة‏:‏ ‏{‏تَحْمِلُهُ‏}‏ في محل نصب على الحال، وكان إتيانها إليهم من المكان القصيّ التي انتبذت فيه، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ منكرين لذلك ‏{‏يا مريم لَقَدْ جِئْتَ‏}‏ أي فعلت ‏{‏شَيْئاً فَرِيّاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الفرّي‏:‏ العجيب النادر، وكذا قال الأخفش‏.‏ والفرّي‏:‏ القطع، كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع بكونه عجيباً نادراً‏.‏ وقال قطرب‏:‏ الفرّي الجديد من الأسقية، أي جئت بأمر بديع جديد لم تسبقي إليه‏.‏ وقال سعيد بن مسعدة‏:‏ الفرّي‏:‏ المختلق المفتعل، يقال‏:‏ فريت وأفريت بمعنى واحد، والولد من الزنا كالشيء المفترى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ وقال مجاهد‏:‏ الفرّي‏:‏ العظيم‏.‏ ‏{‏يا أخت هارون‏}‏‏.‏

قد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوّة، وفي هارون المذكور من هو‏؟‏ فقيل‏:‏ هو هارون أخو موسى، والمعنى‏:‏ أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا وقيل‏:‏ كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فقيل‏:‏ لها يا أخت هارون، كما يقال لمن كان من العرب‏:‏ يا أخا العرب وقيل‏:‏ كان لها أخ من أبيها اسمه هارون وقيل‏:‏ هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت وقيل‏:‏ بل كان في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون، فنسبوها إليه على وجهة التعيير والتوبيخ، حكاه ابن جرير ولم يسمّ قائله وهو ضعيف ‏{‏مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً‏}‏ هذا فيه تقريره لما تقدّم من التعيير والتوبيخ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرّية الصالحين مما لا ينبغي أن تكون‏.‏

‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى عيسى، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوماً عن الكلام كما تقدّم، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت من أيام نذرها، فيمكن أن يقال‏:‏ إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة ‏{‏قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً‏}‏ هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ في الكلام حشو زائد‏.‏ والمعنى‏:‏ كيف نكلم صبياً في المهد كقول الشاعر‏:‏

وجيران لنا كانوا كرام *** وقال الزجاج‏:‏ الأجود أن تكون من في معنى الشرط والجزاء، والمعنى‏:‏ من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه‏.‏ ورجحه ابن الأنباري وقال‏:‏ لا يجوز أن يقال‏:‏ إن ‏{‏كان‏}‏ زائدة وقد نصبت ‏{‏صبياً‏}‏، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل، وهو ‏{‏نكلم‏}‏ كما سبق تقديره‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏كان‏}‏ هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود‏.‏ وردّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، والمهد هو‏:‏ شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي‏.‏ والمعنى‏:‏ كيف نكلم من سبيله أن ينوّم في المهد لصغره‏.‏ وقيل‏:‏ هو هنا حجر الأمّ‏.‏ وقيل‏:‏ سرير كالمهد، فلما سمع عيسى كلامهم ‏{‏قَالَ إِنّي عَبْدُ الله‏}‏ فكان أوّل ما نطق به، الاعتراف بالعبودية لله ‏{‏آتاني الكتاب‏}‏ أي الإنجيل، أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوّة في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً وقيل‏:‏ إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال، وهو بعيد ‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ‏}‏ أي حيثما كنت، والبركة أصلها من بروك البعير، والمعنى‏:‏ جعلني ثابتاً في دين الله، وقيل‏:‏ البركة هي‏:‏ الزيادة والعلوّ، فكأنه قال‏:‏ جعلني في جميع الأشياء زائداً عالياً منجحاً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى المبارك‏:‏ النفاع للعباد، وقيل‏:‏ المعلم للخير، وقيل‏:‏ الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر‏.‏ ‏{‏وأوصاني بالصلاة‏}‏ أي أمرني بها ‏{‏والزكواة‏}‏ زكاة المال، أو تطهير النفس ‏{‏مَا دُمْتُ حَيّاً‏}‏ أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقيق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم‏.‏

‏{‏وَبَرّاً بِوَالِدَتِي‏}‏ معطوف على ‏{‏مباركاً‏}‏ واقتصر على البرّ بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب، وقرئ‏:‏ «وبراً» بكسر الباء على أنه مصدر وصف به مبالغة ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً‏}‏ الجبار‏:‏ المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، والشقيّ العاصي لربه‏.‏ وقيل الخائب‏.‏ وقيل العاقّ‏.‏ ‏{‏والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ السلام هنا بمعنى السلامة أي‏:‏ السلامة عليّ يوم ولدت، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت ولا أغواني عند الموت ولا عند البعث‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به التحية‏.‏ قيل‏:‏ واللام للجنس‏.‏ وقيل‏:‏ للعهد، أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في هذه المواطن الثلاثة موجه إليّ‏.‏ قيل‏:‏ إنه لم يتكلم المسيح بعد هذا الكلام حتى بلغ المدّة التي تتكلم فيها الصبيان في العادة‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ‏}‏ قال‏:‏ بعد أربعين يوماً بعد ما تعافت من نفاسها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا‏:‏ أرأيت ما تقرؤون ‏{‏يا أخت هارون‏}‏ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال‏:‏ فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم‏؟‏»

وهذا التفسير النبوّي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس قال‏:‏ كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏آتاني الكتاب‏}‏ الآية، قال‏:‏ قضى أن أكون كذلك‏.‏ وأخرج الإسماعيلي في معجمه، وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وابن النجار عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول عيسى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ‏}‏ قال‏:‏ «جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت» وأخرج ابن عديّ وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً‏}‏ قال‏:‏ معلماً ومؤدّباً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً‏}‏ يقول‏:‏ عصياً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 40‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المتصف بالأوصاف السابقة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب‏:‏ ‏{‏قَوْلَ الحق‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع‏.‏ فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح، أو على أنه مصدر مؤكد لقال‏:‏ إني عبد الله، قاله الزجاج‏.‏ ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ، قاله الكسائي‏.‏ وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عزّ وجلّ‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ المعنى‏:‏ هو قول الحق‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ هذا لكلام قول الحق‏.‏ وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين‏.‏ وقيل‏:‏ الإضافة للبيان‏.‏ وقرئ «قال الحق» وروي ذلك عن ابن مسعود، وقرأ الحسن‏:‏ «قول الحق» بضم القاف، والقول والقول والقال والمقال بمعنى واحد، و‏{‏الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ‏}‏ صفة لعيسى أي‏:‏ ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق، ومعنى ‏{‏يمترون‏}‏‏:‏ يختلفون، على أنه من المماراة، أو يشكوا على أنه من المرية‏.‏ وقد وقع الاختلاف في عيسى؛ فقالت اليهود‏:‏ هو ساحر، وقالت النصارى‏:‏ هو ابن الله‏.‏

‏{‏مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ‏}‏ أي ما صحّ ولا استقام ذلك، ف «أن» في محل رفع على أنها اسم كان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «من» في ‏{‏من ولد‏}‏ مؤكدة تدلّ على نفي الواحد والجماعة؛ ثم نزّه سبحانه نفسه فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزّه وتقدّس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه فقال‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ أي‏:‏ إذا قضى أمراً من الأمور فيكون حينئذٍ بلا تأخير‏.‏ وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد‏؟‏ ‏{‏وَإِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه‏}‏ قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح «أن»‏.‏ وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها، وهو من تمام كلام عيسى، وقرأ أبيّ‏:‏ «إن الله» بغير واو، قال الخليل وسيبويه‏:‏ في توجيه قراءة النصب بأن المعنى‏:‏ ولأن الله ربي وربكم، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض عطفاً على الصلاة، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على ‏{‏أمراً‏}‏‏.‏ ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ أي هذا الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضلّ سالكه‏.‏

‏{‏فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏‏.‏

«من» زائد للتوكيد، والأحزاب‏:‏ اليهود والنصارى، أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فاليهود قالوا إنه ساحر، كما تقدّم، وقالوا‏:‏ إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم‏:‏ هو ابن الله‏.‏ وقالت الملكانية‏:‏ هو ثالث ثلاثة‏.‏ وقالت اليعقوبية‏:‏ هو الله تعالى، فأفرطت النصارى وغلت، وفرّطت اليهود وقصرت ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ وهم المختلفون في أمره ‏{‏مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور‏.‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ قال أبو العباس‏:‏ العرب تقول هذا في موضع التعجب، فيقولون‏:‏ أسمع تريد وأبصر به، أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم منهم ‏{‏يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ أي للحساب والجزاء ‏{‏لكن الظالمون اليوم‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي واضح ظاهر، ولكنهم أغفلوا التفكر، والاعتبار والنظر في الآثار‏.‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة‏}‏ أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير ‏{‏إِذْ قُضِيَ الأمر‏}‏ أي فرغ من الحساب وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ‏}‏ في محل نصب على الحال أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارض وَمَنْ عَلَيْهَا‏}‏ أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعاً ‏{‏وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ أي يردّون إلينا يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدّم مثل هذا في سورة الحجر‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قَوْلَ الحق‏}‏ قال‏:‏ الله الحقّ عزّ وجلّ‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم‏:‏ هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية؛ فقالت الثلاثة‏:‏ كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث‏:‏ قل فيه، فقال‏:‏ هو ابن الله، وهم النسطورية؛ فقال اثنان كذبت؛ ثم قال أحد الاثنين للآخر‏:‏ قل فيه، فقال‏:‏ هو ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، وهم ملوك النصارى؛ فقال الرابع‏:‏ كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه‏:‏

‏{‏وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وهم الذين قال الله‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم‏:‏ أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم‏؟‏ قالوا‏:‏ اللّهم نعم، قال‏:‏ فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام‏؟‏ قالوا‏:‏ اللّهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذٍ وأصيب المسلمون، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ يقول الكفار يومئذٍ‏:‏ أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ قال‏:‏ ذلك يوم القيامة‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال‏:‏ يا أهل الجنة هل تعرفون هذا‏؟‏ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون‏:‏ نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى يا أهل النار هل تعرفون هذا‏؟‏ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون‏:‏ نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة‏}‏ الآية، وأشار بيده وقال‏:‏ «أهل الدنيا في غفلة» وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال‏:‏ يوم الحسرة‏:‏ هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ ‏{‏أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏ وعلى هذا ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ معطوف على «وأنذر»، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏، وجملة ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً‏}‏ تعليل لما تقدّم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصدّيق‏:‏ كثير الصدق، وانتصاب ‏{‏نبياً‏}‏ على أنه خبر آخر لكان، أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، و‏{‏إِذْ قَالَ لأَبِيهِ‏}‏ بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدّم تقريره، التاء في ‏{‏يا أبت‏}‏ عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في ‏{‏لِمَ تَعْبُدُ‏}‏ للإنكار والتوبيخ ‏{‏مَا لاَ يَسْمَعُ‏}‏ ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له ‏{‏وَلاَ يَبْصِرُ‏}‏ ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، يجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعمّ من ذلك، أي لا يسمع شيئاً من المسموعات، ولا يبصر شيئاً من المبصرات ‏{‏وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً‏}‏ من الأشياء، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر‏.‏ أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه‏.‏ ثم كرّر دعوته إلى الحق فقال‏:‏ ‏{‏ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدّد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق، ويقتدر به على إرشاد الضالّ، ولهذا أمره باتباعه فقال‏:‏ ‏{‏فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه‏.‏ ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال‏:‏ ‏{‏ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان‏}‏ أي لا تطعه، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً‏}‏ حين ترك ما أمر به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاصٍ لله سبحانه فهو عاصٍ لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحلّ به النقم‏.‏ قال الكسائي‏:‏ العصيّ والعاصي بمعنى واحد‏.‏

ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال‏:‏ ‏{‏ياأبت إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن‏}‏ قال الفراء‏:‏ معنى أخاف هنا‏:‏ أعلم‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ إن الخوف هنا محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير‏:‏ هو أن يظنّ وصول الضرر إلى ذلك الغير ‏{‏فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً‏}‏ أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب موالياً، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه‏:‏

‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الوليّ بمعنى التالي‏.‏ وقيل‏:‏ الوليّ بمعنى القريب، أي تكون للشيطان قريباً منه في النار، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، فقَال ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم‏}‏ والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، والمعنى‏:‏ أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره‏؟‏ ثم توعده فقال‏:‏ ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ أي بالحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ باللسان، فيكون معناه‏:‏ لأشتمنك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لأضربنك‏.‏ وقيل‏:‏ لأظهرنّ أمرك ‏{‏واهجرني مَلِيّاً‏}‏ أي زماناً طويلاً‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى‏:‏ الملاوة من الزمان، وهو الطويل، ومنه قول مهلهل‏:‏

فتصدّعت صمّ الجبال لموته *** وبكت عليه المرملات ملياً

وقيل‏:‏ معناه اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة، واختار هذا ابن جرير، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد ‏{‏قَالَ سلام عَلَيْكَ‏}‏ أي تحية توديع ومتاركة كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أمنة مني لك، قاله ابن جرير‏.‏ وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأوّل أولى، وبه قال الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ معناه الدعاء له بالسلامة، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته‏:‏

والشيخ لا يترك أخلاقه *** حتى يوارى في ثرى رمسه

وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏‏.‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً‏}‏ تعليل لما قبلها؛ والمعنى‏:‏ سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف‏.‏ يقال‏:‏ حفي به وتحفّى إذا برّه‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يقال حفي بي حفاوة وحفوة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنه كان بي حفياً، أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته‏.‏

ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي ‏{‏وادعوا رَبّي‏}‏ وحده ‏{‏عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا‏}‏ أي خائباً‏.‏ وقيل‏:‏ عاصياً‏.‏ قيل‏:‏ أراد بهذا الدعاء‏:‏ هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته‏.‏ وقيل‏:‏ أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له، أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم ‏{‏وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ أي كل واحد منهما، وانتصاب ‏{‏كلا‏}‏ على أنه المفعول الأوّل لجعلنا قدّم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم أي كل واحد منهم جعلنا نبياً، لا بعضهم دون بعض ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا‏}‏ بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوّة هي من باب الرحمة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالرحمة هنا‏:‏ المال، وقيل‏:‏ الأولاد، وقيل‏:‏ الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً‏}‏ لسان الصدق‏:‏ الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية‏.‏ وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لأرْجُمَنَّكَ‏}‏ قال‏:‏ لأشتمنك ‏{‏واهجرني مَلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ حيناً‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ‏{‏واهجرني مَلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ اجتنبني سوياً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة ‏{‏مَلِيّاً‏}‏ دهراً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ سالماً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً‏}‏ قال‏:‏ لطيفاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ الثناء الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 63‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏‏}‏

قفّى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلاه في الشرف‏.‏ وقدّمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب، أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً‏}‏ قرأ أهل الكوفة بفتح اللام، أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرأ الباقون بكسرها، أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد ‏{‏إِنَّهُ كَانَ رَسُولاً نبياً‏}‏ أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبيّ بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوّة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم‏.‏ وقال النيسابوري‏:‏ الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبيّ الذي ينبئ عن الله عزّ وجلّ وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعمّ قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه‏:‏ ‏{‏ا رَبّ موسى وهارون‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 70‏]‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن‏}‏ أي كلمناه من جانب الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير، ومعنى الأيمن‏:‏ أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد‏:‏ يمين الجبل نفسه‏.‏ فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال؛ وقيل‏:‏ معنى الأيمن‏:‏ الميمون، ومعنى النداء‏:‏ أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً‏}‏ أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنجيّ بمعنى المناجي كالجليس والنديم، فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قرّبه الملك لمناجاته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته وقيل‏:‏ إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم‏.‏ روي هذا عن بعض السلف‏.‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا‏}‏ أي من نعمتنا، وقيل‏:‏ من أجل رحمتنا، و‏{‏هارون‏}‏ عطف بيان، و‏{‏نَبِيّاً‏}‏ حال منه، وذلك حين سأل ربه قال‏:‏ ‏{‏واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 29 30‏]‏‏.‏ ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كونه جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل‏:‏ إنه انتظر لبعض من وعده حولاً‏.‏ والمراد بإسماعيل هنا‏:‏ هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتدّ به فقال‏:‏ هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته‏.‏ وقيل‏:‏ إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم ‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة‏}‏ قيل‏:‏ المراد بأهله هنا أمته‏.‏

وقيل‏:‏ جرهم، وقيل‏:‏ عشيرته كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ والمراد بالصلاة والزكاة هنا‏:‏ هما العبادتان الشرعيتان ويجوز أن يراد معناهما اللغوي ‏{‏وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً‏}‏ أي رضياً زاكياً صالحاً‏.‏ قال الكسائي والفراء‏:‏ من قال مرضيّ بنى على رضيت، قالا‏:‏ وأهل الحجاز يقولون‏.‏ مرضوّ‏.‏ ‏{‏واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ‏}‏ اسم إدريس أخنوخ، قيل‏:‏ هو جدّ نوح، فإن نوحاً هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح‏.‏ ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل‏:‏ إن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية‏.‏ وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب‏.‏ قيل‏:‏ وهو أوّل من أعطي النبوّة من بني آدم‏.‏ وقد اختلف في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ فقيل‏:‏ إن الله رفعه إلى السماء الرابعة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى السادسة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الثانية‏.‏ وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه‏:‏ ومنهم إدريس في الثانية، وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر‏.‏ والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ إن المراد برفعه مكاناً علياً‏:‏ ما أعطيه من شرف النبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه رفع إلى الجنة‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين‏}‏ الإشارة إلى المذكورين من أوّل السورة إلى هنا، والموصول صفته، و‏{‏من النبيين‏}‏ بيان للموصول، و‏{‏مِن ذُرّيَّةِ * ءادَمَ‏}‏ بدل منه بإعادة الخافض‏.‏ وقيل‏:‏ إن «من» في ‏{‏من ذرية‏}‏ آدم للتبعيض ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ أي‏:‏ من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم‏}‏ وهم الباقون ‏{‏وإسراءيل‏}‏ أي ومن ذرية إسرائيل، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أراد بقوله‏:‏ ‏{‏مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ‏}‏ إدريس وحده، وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ إبراهيم وحده، وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم‏}‏ إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إسراءيل‏}‏ موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ‏{‏وَمِمَّنْ هَدَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ من جملة من هدينا إلى الإسلام ‏{‏واجتبينا‏}‏ بالإيمان ‏{‏إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً‏}‏ وهذا خبر لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو ‏{‏الذين أنعم الله عليهم‏}‏ وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه‏.‏ وقد تقدّم في سبحان بيان معنى خرّوا سجداً‏:‏ يقال‏:‏ بكى يبكي بكاءً وبكياً‏.‏ قال الخليل‏:‏ إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر‏:‏

بكت عيني وحقّ لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويل

و ‏{‏سجدا‏}‏ منصوب على الحال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قد بيّن الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد استدلّ بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة‏.‏

ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ أي عقب سوء‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ يقال لعقب الخير‏:‏ خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدّمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف ‏{‏أضاعوا الصلاة‏}‏ قال الأكثر‏:‏ معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها وقيل‏:‏ أضاعوا الوقت وقيل‏:‏ كفروا بها وجحدوا وجوبها وقيل‏:‏ لم يأتوا بها على الوجه المشروع‏.‏ والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرّة أو أحدها دخولاً أوّلياً‏.‏

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية‏؟‏ فقيل‏:‏ في اليهود وقيل‏:‏ في النصارى وقيل‏:‏ في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ الغيّ‏:‏ هو الشرّ عند أهل اللغة، كما أن الخير‏:‏ هو الرشاد، والمعنى‏:‏ أنهم سيلقون شرّاً لا خيراً‏.‏ وقيل‏:‏ الغيّ الضلال، وقيل‏:‏ الخيبة‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم وادٍ في جهنم وقيل‏:‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ سيلقون جزاء الغيّ، كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏ أي جزاء أثام‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملاً صالحاً، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً‏}‏ أي لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم‏.‏ وانتصاب ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ على البدل من الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز «جنات عدن» بالرفع على الابتداء، وقرئ كذلك‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولولا الخط لكان جنة عدن، يعني‏:‏ بالإفراد، مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس‏.‏ وقرئ بنصب الجنات على المدح، وقد قرئ جنة بالإفراد ‏{‏التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب‏}‏ هذه الجملة صفة لجنات عدن، و‏{‏بالغيب‏}‏ في محل نصب على الحال من الجنات، أو من عباده، أي متلبسة، أو متلبسين بالغيب، وقرئ‏:‏ بصرف عدن، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة، أو علم لأرض الجنة ‏{‏إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً‏}‏ أي‏:‏ موعوده على العموم، فتدخل فيه الجنات دخولاً أوّلياً‏.‏

قال الفراء‏:‏ لم يقل آتياً، لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم؛ وقيل‏:‏ اللغو‏:‏ كل ما لم يكن فيه ذكر الله ‏{‏إِلاَّ سلاما‏}‏ هو استثناء منقطع‏:‏ أي سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى‏:‏ أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ ليس في الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء ‏{‏تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً‏}‏ أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه‏.‏ قرأ يعقوب «نورّث» بفتح الواو وتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ نورّث من كان تقياً من عبادنا‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ قال‏:‏ النبي الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل‏.‏ ولفظ ابن أبي حاتم‏:‏ الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد‏.‏ والرسل‏:‏ الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏جَانِبِ الطور الأيمن‏}‏ قال‏:‏ جانب الجبل الأيمن ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً‏}‏ قال‏:‏ نجا بصدقه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال‏:‏ قربه حتى سمع صريف القلم، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح‏.‏ وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون‏}‏ قال‏:‏ كان هارون أكبر من موسى، ولكن إنما وهب له نبوّته‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال‏:‏ سبحان الله، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال‏:‏ يا ربّ ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له فأتى إدريس فقال‏:‏ إني جئتك لأخدمك، قال‏:‏ كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان‏؟‏ ثم قال إدريس‏:‏ هل بينك وبين ملك الموت شيء‏؟‏ قال الملك‏:‏ ذاك أخي من الملائكة، قال‏:‏ هل تستطيع أن تنفعني‏؟‏ قال‏:‏ أما يؤخر شيئاً أو يقدّمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال‏:‏ اركب بين جناحيّ، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك‏:‏ إن لي إليك حاجة، قال‏:‏ علمت حاجتك تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة في الصنف، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ سألت كعباً فذكر نحوه، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ «رفع إدريس إلى السماء السادسة»‏.‏ وأخرج الترمذي وصححه، وابن المنذر وابن مردويه قال‏:‏ حدثنا أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة ‏"‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ إدريس هو إلياس‏.‏ وحسنه السيوطي‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ إلى آخره، قال‏:‏ هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم؛ أما من ذرية آدم‏:‏ فإدريس ونوح؛ وأما من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم‏:‏ فإسماعيل، وإسحاق ويعقوب؛ وأما ذرية إسرائيل‏:‏ فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود والنصارى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال‏:‏ هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏أضاعوا الصلاة‏}‏ قال‏:‏ ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها‏:‏ إذا لم يصلها لوقتها‏.‏ وأخرج أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات‏}‏ الآية قال‏:‏ ‏"‏ يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة‏:‏ مؤمن، ومنافق، وفاجر ‏"‏ وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن، قلت‏:‏ يا رسول الله ما أهل الكتاب‏؟‏ قال‏:‏

«قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا»، قلت‏:‏ ما أهل اللبن‏؟‏ قال‏:‏ «قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، والحاكم وصححه عن عائشة، أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول‏:‏ لا تعطوا منها بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «هم الخلف الذين قال الله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏» وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ قال‏:‏ خسراً‏.‏ وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ قال‏:‏ الغيّ نهر، أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات‏.‏ وقد قال بأنه وادٍ في جهنم البراء بن عازب‏.‏ وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني‏.‏ وأخرج ابن جرير والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أن صخرة زنة عشر عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غيّ وأثام» قلت‏:‏ وما غيّ وأثام‏؟‏ قال‏:‏ «نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الغيّ وادٍ في جهنم» وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ قال‏:‏ باطلاً‏.‏ وأخرج سعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ قال‏:‏ يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، هل في الجنة من ليل‏؟‏ قال‏:‏ «وما هيجك على هذا»‏؟‏ قال‏:‏ سمعت الله يذكر في الكتاب‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ فقلت‏:‏ الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس هناك ليل، وإنما هو ضوء ونور، يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدوّ، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة» وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلى أنه يزف إلى وليّ الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهنّ التي خلقت من الزعفران» قال بعد إخراجه‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 72‏]‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ‏}‏ أي قال الله سبحانه‏:‏ قل يا جبريل‏.‏ وما نتنزل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله‏.‏ قيل‏:‏ احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً؛ وقيل‏:‏ خمسة عشر وقيل‏:‏ اثني عشر وقيل‏:‏ ثلاثة أيام؛ وقيل‏:‏ إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وأنهم يقولون عند دخولها‏:‏ وما نتنزل هذه الجنان ‏{‏إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏ والأوّل أولى بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل‏.‏ والثاني‏:‏ وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك، والتنزل‏:‏ النزول على مهل، وقد يطلق على مطلق النزول‏.‏ ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ أي من الجهات والأماكن، أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر على أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين وقيل‏:‏ الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل‏:‏ ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحالة التي نحن فيها‏.‏ وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى‏:‏ أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال‏:‏ ‏{‏وما بين ذلك‏}‏ ولم يقل وما بين ذينك، لأن المراد‏:‏ وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ أي لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي، وقيل‏:‏ المعنى إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله‏.‏

‏{‏رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي خالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه‏.‏ ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته والصبر عليها فقال‏:‏ ‏{‏فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ‏}‏ والفاء للسببية لأن كونه ربّ العالمين سبب موجب لأن يعيد، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدّى بها لتضمنه معنى الثبات ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ الاستفهام للإنكار‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له، هذا مبنيّ على أن المراد بالسميّ‏:‏ هو الشريك في المسمى وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل‏:‏ المعنى إنه لم يسمّ شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط، يعني‏:‏ بعد دخول الألف واللام التي عوّضت عن الهمزة ولزمت‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ هل تعلم أحداً اسمه الرحمن غيره‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ تأويله والله أعلم‏:‏ هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له‏:‏ خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا لا سميّ لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه، فللّه سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا‏:‏ نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ قرأ الجمهور على الاستفهام، وقرأ ابن ذكوان‏:‏ «إذا ما متّ» على الخبر، والمراد بالإنسان ها هنا‏:‏ الكافر، لأن هذا الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث وقيل‏:‏ اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أخرج‏}‏ أي من القبر، والعامل في الظرف فعل دلّ عليه أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها‏.‏ ‏{‏أَوَ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ الهمزة للإنكار التوبيخي، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها، والمراد بالذكر هنا‏:‏ إعمال الفكر، أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أوّل خلقه فيستدلّ بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة، لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعاً واختراعاً، لم يتقدّم عليه ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدّم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها، ومعنى ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ قبل الحالة التي هو عليها الآن، وجملة‏:‏ ‏{‏ولم يك شيئاً‏}‏ في محل نصب على الحال، أي والحال أنه لم يكن حينئذٍ شيئاً من الأشياء أصلاً، فإعادته بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر‏.‏ قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة إلا عاصماً «‏{‏أو لا يذكر‏}‏ بالتشديد، وأصله يتذكر‏.‏ وقرأ شيبة ونافع وعاصم وابن عامر» يذكر «بالتخفيف، وفي قرءاة أبيّ‏:‏» أو لا يتذكر «‏.‏

ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها، أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً، فقال‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ ومعنى ‏{‏لنحشرنهم‏}‏‏:‏ لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏والشياطين‏}‏ للعطف على المنصوب، أو بمعنى مع‏.‏

والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً‏}‏ الجثي جمع جاث، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً، وهو منتصب على الحال، أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، أو لكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏جثياً‏}‏‏:‏ جماعات، وأصله، جمع جثوة، والجثوة هي‏:‏ المجموع من التراب أو الحجارة‏.‏ قال طرفة‏:‏

أرى جثوتين من تراب عليهما *** صفائح صم من صفيح منضد

‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ‏}‏ الشيعة‏:‏ الفرقة التي تبعت ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال‏:‏ هي الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً‏}‏ من كان أعصى لله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم‏.‏ والعتيّ ها هنا مصدر كالعتوّ، وهو التمرّد في العصيان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لننزعن من أهل كلّ دين قادتهم ورؤساءهم في الشرّ‏.‏ وقد اتفق القراء على قراءة ‏{‏أيهم‏}‏ بالضم إلا هارون الغازي فإنه قرأها بالفتح‏.‏ قال الزجاج‏:‏ في رفع أيهم ثلاثة أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية، والمعنى‏:‏ ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشدّ‏.‏ وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر‏:‏

وقد أبيت من الفتاة بمنزل *** فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم‏.‏ قال النحاس‏:‏ ورأيت أبا إسحاق، يعني‏:‏ الزجاج، يختار هذا القول ويستحسنه‏.‏ القول الثاني‏:‏ قول يونس‏:‏ وهو أن ‏{‏لننزعنّ‏}‏ بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق‏.‏ فهذا الفعل عنده معلق عن العمل في أيّ، وخصص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مما لم يتحقق وقوعه‏.‏ القول الثالث‏:‏ قول سيبويه‏:‏ إن أيهم ها هنا مبنيّ على الضم، لأنه خالف أخواته في الحذف، وقد غلط سيبويه في قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج‏:‏ ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما، وللنحويين في إعراب ‏{‏أيهم‏}‏ هذه في هذا الموضع كلام طويل‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ يقال‏:‏ صلى يصلي صلياً مثل مضى الشيء يمضي مضياً، قال الجوهري‏:‏ يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته إلقاءً كأنك تريد الإحراق قلت‏:‏ أصليته بالألف وصليته تصلية ومنه‏:‏

‏{‏ويصلى سَعِيراً‏}‏ ‏[‏الإنشقاق‏:‏ 12‏]‏ ومن خفف فهو من قولهم‏:‏ صلي فلان النار بالكسر يصلى صلياً احترق، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ قال العجاج‏:‏

والله لولا النار أن تصلاها *** ومعنى الآية‏:‏ أن هؤلاء الذين هم أشدّ على الرحمن عتياً هم أولى بصليها، أو صليهم أولى بالنار‏.‏

‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ الخطاب للناس من غير التفات، أو للإنسان المذكور، فيكون التفاتاً، أي ما منكم من أحد إلا واردها، أي واصلها‏.‏

وقد اختلف الناس في هذا الورود‏.‏ فقيل‏:‏ الورود‏:‏ الدخول ويكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الورود‏:‏ هو المرور على الصراط وقيل‏:‏ ليس الورود الدخول إنما هو كما يقول‏:‏ وردت البصرة ولم أدخلها، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، ومما يدلّ على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏ فإن المراد‏:‏ أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ومنه قول زهير‏:‏

فلما وردن الماء زرقاً حمامه *** وضعن عصي الحاضر المتخيم

ولا يخفى أن القول بأن الورود هو‏:‏ المرور على الصرط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنّة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابهما، أو بحمله على المضيّ فوق الجسر المنصوب عليها، وهو الصراط ‏{‏كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً‏}‏ أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً قد قضى سبحانه أنه لا بدّ من وقوعه لا محالة‏.‏ وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرّق الخلف إليه‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا‏}‏ أي‏:‏ اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، وترك ما شرعه، وأوجب العمل به‏.‏ قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة «ننجي» بالتخفيف من أنجى، وبها قرأ حميد ويعقوب والكسائي، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ ابن أبي ليلى‏:‏ «ثُمَّ نذر» بفتح الثاء من ثم، والمراد بالظالمين‏:‏ الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض، والجثيّ جمع جاثٍ وقد تقدّم قريباً تفسير الجثيّ وإعرابه‏.‏

وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا‏؟‏» فنزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وكان ذلك الجواب لمحمد‏.‏ وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ البقاع أحبّ إلى الله، وأيها أبغض إلى الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ما أدري حتى أسأل ‏"‏، فنزل جبريل، وكان قد أبطأ عليه، فقال‏:‏ ‏"‏ لقد أبطأت عليّ حتى ظننت أن بربي عليّ موجدة ‏"‏، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ثم نزل، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما نزلت حتى اشتقت إليك ‏"‏، فقال له جبريل‏:‏ أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏‏.‏ وهو مرسل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له‏:‏ ‏"‏ ما حبسك عني ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون‏؟‏ وقرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏»‏.‏ وهو مرسل أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا‏}‏ قال‏:‏ من أمر الآخرة ‏{‏وَمَا خَلْفَنَا‏}‏ قال‏:‏ من أمر الدنيا ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ قال‏:‏ ما بين الدنيا والآخرة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ قال‏:‏ ما بين النفختين‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن أبي العالية مثله‏.‏ وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي، والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث قال‏:‏ ‏"‏ ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ ‏"‏ وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ قال‏:‏ هل تعرف للربّ شبهاً أو مثلاً‏؟‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ليس أحد يسمى الرحمن غيره‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد‏؟‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الإنسان‏}‏ قال‏:‏ العاص بن وائل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جِثِيّاً‏}‏ قال‏:‏ قعوداً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏عِتِيّاً‏}‏ قال‏:‏ معصية‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏عِتِيّاً‏}‏ قال‏:‏ عصياً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ‏}‏ قال‏:‏ لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤوسهم في الشرّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال‏:‏ نحشر الأوّل على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عِتِيّاً‏}‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ إنهم أولى بالخلود في جهنم‏.‏ وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال‏:‏ اختلفنا في الورود، فقال بعضنا‏:‏ لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا‏:‏ يدخلونها جميعاً ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا‏}‏ فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له، فقال وأهوى بأصبعه إلى أذنيه صُمَّتاً‏:‏ إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏» وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال‏:‏ خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس، فقال ابن عباس‏:‏ الورود‏:‏ الدخول، وقال نافع‏:‏ لا، فقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ وردوا أم لا‏؟‏ وقرأ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ أوردوا أم لا‏؟‏ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا‏؟‏ وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ قال‏:‏ وإن منكم إلا داخلها‏.‏ وأخرج هناد والطبراني عنه في الآية قال‏:‏ ورودها الصراط‏.‏ وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأوّلهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدّ الرحل، ثم كمشيه» وقد روي نحو هذا من حديث ابن مسعود من طرق‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏» يقول‏:‏ «مجتاز فيها»

وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية» قالت حفصة‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ قالت‏:‏ ألم تسمعيه يقول‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم»، ثم قرأ سفيان ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏‏.‏ وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوّعاً لا يأخذه سلطان‏:‏ لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏» والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدّاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏حَتْماً مَّقْضِيّاً‏}‏ قال‏:‏ قضاء من الله‏.‏ وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن عكرمة حتماً مقضياً قال‏:‏ قسماً واجباً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ قال‏:‏ باقين فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 80‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا‏:‏ لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه، ومعنى البينات‏:‏ الواضحات التي لا تلتبس معانيها‏.‏ وقيل‏:‏ ظاهرات الإعجاز‏.‏ وقيل‏:‏ إنها حجج وبراهين، والأوّل أولى‏.‏ وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذين كفروا هنا‏:‏ هم المتمردّون المصرّون منهم، ومعنى قالوا ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ قالوا‏:‏ لأجلهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏ أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم ‏{‏أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ المراد بالفريقين‏:‏ المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا‏:‏ أفريقنا خير أم فريقكم‏؟‏ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد «مقاماً» بضم الميم، وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلاً ومسكناً‏.‏ وقيل‏:‏ المقام‏:‏ الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى‏:‏ أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً، والنديّ والنادي‏:‏ مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وناداه جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم، ومنه أيضاً قول الشاعر‏:‏

أنادي به آل الوليد جعفرا *** ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ‏}‏ القرن‏:‏ الأمة والجماعة ‏{‏هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا‏}‏ الأثاث‏:‏ المال أجمع، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع‏.‏ وقيل‏:‏ هو متاع البيت خاصة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الجديد من الفرش‏.‏ وقيل‏:‏ اللباس خاصة‏.‏ واختلفت القراءات في‏:‏ ‏{‏ورئياً‏}‏ فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان «ورياً» بياء مشدّدة، وفي ذلك وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة‏:‏ هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين‏.‏ وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير‏:‏ «ورئياً» بالهمز، وحكاها ورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى‏.‏ قال الجوهري‏:‏ من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي‏:‏

أشاقتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز‏:‏ إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً، أي امتلأت وحسنت‏.‏

وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي‏.‏ وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة، فقيل‏:‏ إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي‏.‏ والزيّ‏:‏ الهيئة والحسن‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون من زويت أي‏:‏ جمعت، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء، والزيّ محاسن مجموعة‏.‏

‏{‏قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة‏}‏ أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية، أي من كان مستقرّاً في الضلالة ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏ هذا وإن كان على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏‏.‏ أو للاستدراج كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول‏:‏ أفعل ذلك وآمر به نفسي ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين مدّ لهم في الضلالة، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من، كما أن قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ‏}‏ اعتبار بلفظها، وهذه غاية للمدّ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد ‏{‏إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة‏}‏ هذا تفصيل لقوله‏:‏ ‏{‏ما يوعدون‏}‏ أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين‏:‏ إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذٍ من العذاب الأخروي ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً‏}‏ هذا جواب الشرط، وهو جواب على المفتخرين، أيّ هؤلاء القائلون‏:‏ ‏{‏أيّ الفريقين خير مقاماً‏}‏ إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين، أو الأخروي، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكاناً من الفريقين، وأضعف جنداً منهما، أي أنصاراً وأعواناً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكاناً لا خير مكاناً، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين؛ وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 43‏]‏‏.‏

ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى‏}‏ وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير وقيل‏:‏ المراد بالزيادة‏:‏ العبادة من المؤمنين، والواو في ‏{‏ويزيد‏}‏ للاستئناف، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين وقيل‏:‏ الواو للعطف على ‏{‏فليمدد‏}‏ وقيل‏:‏ للعطف على جملة ‏{‏من كان في الضلالة‏}‏‏.‏

قال الزجاج‏:‏ المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم ‏{‏والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا‏}‏ هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً‏:‏ أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية ‏{‏وَخَيْرٌ مَّرَدّاً‏}‏ المردّ ها هنا مصدر كالردّ، والمعنى‏:‏ وخير مردّاً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمردّ‏:‏ المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً‏.‏

ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بئاياتنا‏}‏ أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام، أي أنظرت فرأيت، واللام في ‏{‏لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ هي الموطئة للقسم، كأنه قال‏:‏ والله لأوتينّ في الآخرة مالاً وولداً، أي أنظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته‏.‏

ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال‏:‏ ‏{‏أَطَّلَعَ‏}‏ على ‏{‏الغيب‏}‏ أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة ‏{‏أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنظر في اللوح المحفوظ‏؟‏ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؛ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أم اتخذ عند الرحمن عهداً‏}‏ أم قال‏:‏ لا إله إلا الله فأرحمه بها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أم قدّم عملاً صالحاً فهو يرجوه‏.‏ واطلع مأخوذ من قولهم‏:‏ اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش‏:‏ «وولداً» بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل‏:‏ هما لغتان معناهما واحد، يقال‏:‏ ولد وولد كما يقال‏:‏ عدم وعُدم، قال الحارث بن حلزّة‏:‏

ولقد رأيت معاشرا *** قد ثمروا مالاً وولداً

وقال آخر‏:‏

فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار

وقيل‏:‏ الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد‏.‏ وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله‏:‏ ‏{‏لأوتينّ مالاً وولداً‏}‏ أنه يؤتى ذلك في الدنيا‏.‏ وقال جماعة‏:‏ في الجنة، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن أقمت على دين آبائي لأوتين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً‏.‏

‏{‏كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ‏}‏‏:‏ «كلا» حرف ردع وزجر، أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد، سيكتب ما يقول أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته ‏{‏وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً‏}‏ أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء‏.‏

‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه‏.‏ والمعنى‏:‏ مسمى ما يقول ومصداقه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره‏.‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْداً‏}‏ أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بما يقول‏:‏ نفس القول لا مسماه، والمعنى‏:‏ إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه، والأوّل أولى‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ قال‏:‏ قريش تقوله لها ولأصحاب محمد‏.‏ وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ قال‏:‏ المنازل ‏{‏وَأَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ قال‏:‏ المجالس، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَحْسَنُ أَثَاثاً‏}‏ قال‏:‏ المتاع والمال ‏{‏ورئياً‏}‏ قال‏:‏ المنظر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏‏:‏ فليدعه الله في طغيانه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ‏:‏ «قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة»‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ‏}‏ من حديث خباب بن الأرت قال‏:‏ كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال‏:‏ لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت‏:‏ والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال‏:‏ فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله فيه هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله يرجو بها‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ قال‏:‏ ماله وولده‏.‏